تم نقل محتويات الموقع إلى الأكاديمية الجديدة www.amr-ia.com

 

 
بحث في الموقع
تفضل هنا
 
 
 
 
المقال الحادي عشر: لم يبطل سحر النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد القراءة
مقالات أكاديمية هالة العالمية - المقال الحادي عشر

كثرت الأحاديث الصحيحة في نقل أخبار السحر الذي وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقد أنكر بعض المسلمين ذلك لأنَّ عقولهم لم تستوعب جريان السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم لم يعرفوا السحر معرفة صحيحة تامة، ولم يعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، فهو منهم نفي لِما لا يُعرف عن من لا يُعرف. والسحر قد قدمنا عنه نبذة في الفصل السابق، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فغني عن التعريف، وأنَّى لشخص مثلي أن يُعَرِّفَهُ ويتكلم عنه صلوات ربي وسلامه عليه، لكن هؤلاء ممن لم يعاصروه صلى الله عليه وسلم ولم يعاصروا صحابته رضوان الله عليهم خفي عليهم أنه صلى الله عليه وسلم عبد لله قبل أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّه صلى الله عليه وسلم بشر يعتريه ما يعتري غيره من البشر من أمراض وأسقام، وأنه صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله في دينه وتبليغه. وبعض المنكرين رأى بعض التناقضات بين الروايات، فبدلاً من البحث عن سبب التناقض وتفسيره قام بإنكار جميع الأحاديث المتعلقة به.

كما أنه لا يوجد تناقض بين واقعة سحر الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قوله تعالى على لسان المشركين {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [الإسراء: 47]، فالسِّحر الذى ادَّعاه المشركون ونفاه القرآن هو السِّحر الذى يؤثر في عقل المسحور ويجعله يهذى كالمجانين وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يصيبه مثل ذلك، والسِّحر الذي وقع له صلى الله عليه وسلم لم يكن له تأثير على العقل والدين، وإنما على تخيل الأمور الزوجية وهو نوع من سحر الربط.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذا السِّحر الذي وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم (قَدْ أَنْكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ هَذَا عَلَيْهِ، وَظَنُّوهُ نَقْصًا وَعَيْبًا، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَعْتَرِيهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَسْقَامِ وَالأَوْجَاعِ، وَهُوَ مَرَضٌ مِنَ الأَمْرَاضِ، وَإِصَابَتُهُ بِهِ كَإِصَابَتِهِ بِالسُّمِّ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.... قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالسِّحْرُ مَرَضٌ مِنَ الأَمْرَاضِ، وَعَارِضٌ مِنَ الْعِلَلِ يَجُوزُ عَلَيْهِ r، كَأَنْوَاعِ الأَمْرَاضِ مِمَّا لا يُنْكَرُ، وَلاَ يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُدْخِلُ عَلَيْهِ دَاخِلَةً فِي شَيْءٍ مِنْ صِدْقِهِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَالإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِسَبَبِهَا، وَلاَ فُضِّلَ مِنْ أَجْلِهَا، وَهُوَ فِيهَا عُرْضَةٌ لِلآفَاتِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنَّهُ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِهَا مَا لاَ حَقِيقَةَ لَهُ، ثُمَّ يَنْجَلِي عَنْهُ كَمَا كَانَ.)[1]ا.هـ

وقال كذلك رحمه الله متحدثاً عن حديث السحر (وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته)[2] كما قال (وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين[3])[4]، وأقول هذه كتب أهل الحديث بين أيدينا تشهد بما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله، ومن ادعى عكس ذلك فعليه البينة.

وقال رحمه الله عن سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم (والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء فقد أغمي عليه في مرضه ووقع حين انفكت قدمه وجحش شقه، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته، وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا مِن أممهم بما ابتُلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس، فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلي بالذي رماه فشجه وابتلي بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد وغير ذلك، فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله)[5].

وقال كذلك (وأما قولكم إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسَلَّى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم، فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة والنعمة السابغة لا إله غيره ولا رب سواه.)[6]

وقال الإمام المازري رحمه الله (أنكر بعض الْمُبْتَدِعَةُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طريق ثابتة، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يعْدم الثِّقَة بِمَا شرعوه مِنَ الشَّرَائِعِ، ولعله يتخيل إليه جِبْرِيلَ عليه السلام وَلَيْسَ ثَمَّ ما يراه، أوْ أَنَّهُ أوحي إِلَيْهِ وما أوحي إليه، وهذا الذي قالوه باطل وذلك أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ سبحانه وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِيه، وَالْمُعْجِزةُ شَاهِدَةٌ بِصِدِقِهِ، فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلاَفِهِ بَاطِلٌ، وماَ  يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بسببها وَلاَ كَانَ رسولا مفضلا مِنْ أَجْلِهَا فَهُوَ فِي كثير منه عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِضُ الْبَشَرَ، فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لا حَقِيقَةَ لَهُ)[7]. وقال القاضي عياض رحمه الله (أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ لاَ عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ)[8].

نص الحديث:

كما ذكرت فإن الروايات كثيرة، لكن أورد هنا رواية مما في صحيح البخاري حيث قال رحمه الله حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَكَذَا، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: ( يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ: أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، يَعْنِي مَسْحُورًا، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ، تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (هَذِهِ البِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ) فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلاَّ، تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا) قَالَتْ: وَلَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، حَلِيفٌ لِيَهُودَ[9].

 

ولاستخراج أحكام العبادات فإن الاعتماد لا بدَّ أن يكون على أحاديث ثابتة؛ أي تكون في درجة الصحيح أو الحسن، لكن ما يهمنا في هذا الكتيب هو تعلم الجانب الطبي من هذه الحادثة، ولنفعل ذلك يمكننا مطالعة جميع الروايات صحيحها وضعيفها كما نفعل في قراءة السير والمغازي، ونفهم من ذلك لنستنتج ونجرب؛ ثم نثبت ما يصِحُّ سنداً وتجربةً، وقد وفَّر علينا كثير من العلماء الجمع بين الروايات منها ما جاء في فتح الباري لابن حجر وفي بدائع الفوائد لابن القيم فنستخرج ما يلي:

مقدمة السحر:

(لَمَّا رَجَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، جَاءَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ إِلَى لَبِيدِ بْنِ الأَعْصَمِ وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْقٍ وَكَانَ سَاحِرًا، فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا الأَعْصَمِ أَنْتَ أَسْحَرُنَا، وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَعْ شَيْئًا، وَنَحْنُ نَجْعَلُ لَكَ جُعْلاً عَلَى أَنْ تَسْحَرَهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ)[10]. وقبل ذلك (كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنت إليه اليهود فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وتولى)[11].

تُبَيِّنُ القصة أن اليهود حاولوا مراراً وتكراراً سِحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى يحفظه ويرعاه ويحميه من هذه الأسحار حتى أعيتهم الحيل، فذهبوا إلى لبيد بن الأعصم يعرضون عليه مالاً ممحوقاً وأجراً دنيويا حراماً، وهكذا هم اليهود والسحرة يشترون الدنيا ببيع الآخرة، وقد استغلوا وجود أحد غلمانهم في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقربوا من هذا الغلام وأقنعوه أن يحضر لهم شيئاً من أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعل وأحضر لهم مشاطة أي ما خرج من شعره صلى الله عليه وسلم أثناء التمشيط كما أحضر لهم الغلام بعض أسنان مشطه صلى الله عليه وسلم. وقيل مشاقة أي ما خرج من الكتان من ملابسه صلى الله عليه وسلم.

وهذه القصة دائما تُعاد وتُكرَّر من قِبل جميع الحُسَّاد، فعندما يضمرون الحسد والحقد في أنفسهم وتشتعل قلوبهم نار وكمداً فإنهم يكررون المحاولات تلو المحاولات ولو كلفهم ذلك مالاً وخسراناً في الدنيا والآخرة، ويبحثون عن الأفضل والأقوى لفعل الأذية وإلحاق الضرر. ولا يهدأ لهم بال حتى يروا من حسدوه يتعذب ويتألم في مصيبته، وذلك قمة فرحهم وسعادتهم أهلكهم الله.

الساحر:

لبيد بن الأعصم، من بني زريق، وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان لبيد منافقاً، أصله كان يهودياً، وقيل مشركاً ولكن غلب على وصفه باليهودية لتحالفه مع اليهود. ثم أظهر الإسلام وأبطن الكفر وبقي من حلفاء اليهود، وكان كما يتبين أمهر وأفضل السحرة. وهو يذكرنا بالسحرة الموجودين بين أظهرنا، يُصَلُّون معنا في مساجدنا، لكنهم في خلواتهم يمارسون عبادة الشياطين ويتقربون إليه، وصلاتهم قد تكون على جنابة استهزاءاً بالله سبحانه وتعالى وبشرعه ودينه.

آثار السحر:

الأرجح والله أعلم أنه كان تخييلاً يخيل إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة فيراه كأنه حقيقة فإذا تأمل فيه صلى الله عليه وسلم عرف حقيقته وأنكر بصره ولم يجزم به. وهذا مثل السحر الذي تعرَّض له موسى عليه السلام مع الحاضرين من قِبل جبابرة سحرة فرعون وكبرائهم حيث قال سبحانه وتعالى {يُخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [ طه: ٦٦]،  والله عز وجل أعلم.

مدة السحر:

لا يوجد حديث صحيح ينص على عدد الأيام، لكن ذهب ابن حجر بعد جمع الروايات إلى أن مجموع المدة التي مر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المرض كانت ستة أشهر وكذا روى ابن القيم رحمه الله.

نوع السحر:

السحر إما أن يكون مدفونا أو معلقا، وإما أن يكون في مكان حار أو بارد، وسحر الرسول صلى الله عليه وسلم جمع كل الخصال، فهو مدفون في البئر معلق فيها، ويحوي البئر تراباً وماءً وهواءً وحرارة وبرودة -أحد جزئي البئر (العلوي أو السفلي) حار والآخر عكسه بارد- إضافة إلى احتوائه أثراً من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبيث اللئيم جمع كل الخصال الممكنة في هذا السحر. وهو كما يظهر سِحر من دون أن يكون به مس من الجن، والظاهر أن هذا سبب فشل اليهود سابقاً أنهم كانوا يحاولون عمل أسحار مقترنة بمس من الجن ففشلوا والحمد لله.

ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟:

يقول ابن حجر رحمه الله (سَلَكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَسْلَكَيِ التَّفْوِيضِ وَتَعَاطِي الأَسْبَابِ، فَفِي أَوَّلِ الأَمْرِ فَوَّضَ وَسَلَّمَ لأَمْرِ رَبِّهِ فَاحْتَسَبَ الأَجْرَ فِي صَبْرِهِ عَلَى بَلائِهِ، ثُمَّ لَمَّا تَمَادَى ذَلِكَ وَخَشِيَ مِنْ تَمَادِيهِ أَنْ يُضْعِفَهُ عَنْ فُنُونِ عِبَادَتِهِ جَنَحَ إِلَى التَّدَاوِي، ثُمَّ إِلَى الدُّعَاءِ)[12].

فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتساب، ثم بدأ التداوي بالرقى وغيرها، إلى أن اكتفى بالدعاء، وذلك لعجز الأسباب الدنيوية المتوفرة لديه صلى الله عليه وسلم.

الخطوة الأولى في العلاج – ماذا فعل الرجلان؟ (التشخيص والتحديد):

الرجلان هما ملكان كما في روايات أخرى، وقيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، لكن لا يهمنا من هما بقدر ما يهمنا ما فعلوا، وهنا تكمن ذروة الفوائد من هذا الحديث، جلس أحدهم إلى قدميه صلى الله عليه وسلم والآخر إلى رأسه صلى الله عليه وسلم، ثم اكتشفوا تشخيص مرضه بأنَّهُ سِحر، وحدَّدُّوا مكان السِّحر واسم السَّاحر.

لماذا لم يوحِ اللهُ سبحانه وتعالى العلاجَ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة كما أوحى القرآن؟ لماذا نزل الملكان ليجلسا عند قدمه ورأسه الشريفتين صلى الله عليه وسلم؟ ما الحكمة من كل ما حصل؟ الجواب واللهُ أعلمُ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا كيفية تشخيص وعلاج هذا المرض، واختار الله سبحانه وتعالى  لذلك سيد البشرية قدوتنا صلى الله عليه وسلم، وأنزل سبحانه وتعالى  من السماء ملكين يعطياننا المفاتيح لكسر هذا الداء، فبذلك لا يكون ابتلاؤه صلى الله عليه وسلم رفعةً لدرجاته ومنزلته فقط، بل يكون فداءً وتضحية منه صلى الله عليه وسلم لتعليم البشرية طريق الشفاء، يكون تحمُّلهُ صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة وأسوة للمبتلين، وعلاجاً ودواءً للمسحورين، وما هو أعظم شرف ومواساة للمسحورين من هذا الأمر، ما هو أعظم شرفاً من أن تُصابَ بمثل ما أُصيبَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه قمة الشرف والافتخار والاعتزاز، وإنه لمصيبةٌ كبيرةٌ للسَّحرةِ الخاسرين أنَّهُم بدلاً من يؤذوا المسحورين فإنهم أحسنوا إليهم بأن جعلوا المسحورين يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتلائه، وهو كذلك شرف للمعالجين والرقاة أن يُعالجوا الناس مما ابتُلي به رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقاً، وشرف لهم أن تكون الملائكة النازلة لعلاج رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لهم في علاج البشر. فجزى الله نبينا صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فبتضحيته صلى الله عليه وسلم نتعلم كيف نخلِّصُ الناس من هذا الداء، بل نخلِّصُ كذلك خُدَّام السحر من الجن من أسرهم وقيدهم.

لنستخرج الحكمة فإنَّ علينا التأمل في الحديث، لماذا جلس الملكان عند رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وقدمه؟ كيف عرفا بعد ذلك نوع السحر ومكانه واسم الساحر؟ لننظر ما هو الشيء المشترك بين الرأس والقدم الذي قد يؤدي التأمل فيه إلى الوصول إلى نفس المعلومات لأي مسحور.

نرى بأعيننا وأجهزتنا شبكة الأوعية الدموية متصلة ما بين الرأس والقدم، وكذلك شبكة الأعصاب، كما أنَّ هناك قنوات طاقة متصلة أيضاً بين الرأس والقدم، وتوجد نقاط لجس نبض القلب. هذا ما يجب أن يؤدي إلى فتح باب الاستنتاج والتجربة لمعرفة علاج المسحور. والطريقة الموجودة في الكتاب تم استخراجها بعد هذا التأمل ونجحت في التشخيص بدقة كبيرة ولله الحمد.

الخطوة الثانية في العلاج – استخراج السحر وإبطاله:

وقع خلاف بين العلماء هل تم استخراج السحر أم لا، وسبب هذا الخلاف التناقض في الروايات، وحل هذا التناقض على وجهين كما يلي:

1-   هل كان سؤال عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم (أفلا استخرجته)، أم (أفلا تنشرت)، أم (أفلا) فقط، يحل هذا الإشكال ابن بطال مؤيداً وقوع الاستخراج فيقول رحمه الله: (قال المهلب: وقع في هذا الحديث فاستخرج السحر، ووقع في باب السحر "قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجت فأمر بها فدفنت"، وهذا اختلاف من الرواة، ومدار الحديث على هشام بن عروة وأصحابه مختلفون في استخراجه، فأثبته سفيان في روايته من طريقين في هذا الباب، وأوقف سؤال عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة، ونفى الاستخراج عن عيسى بن يونس، وأوقف سؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم على الاستخراج ولم يذكر أنه جاوب على الاستخراج بشيء، وحقق أبو أسامة جوابه صلى الله عليه وسلم؛ إذ سألته عائشة عن استخراجه بلا، فكان الاعتبار يعطى أبو سفيان أولى بالقول لتقدمه في الضبط، وأن الوهم على أبي أسامة في أنه لم يستخرجه، ويشهد لذلك أنه لم يذكر النشرة في حديثه فوهم في أمرها فرد جوابه صلى الله عليه وسلم بلا على الاستخراج فلم يذكر النشرة. وكذلك عيسى بن يونس لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم جاوب على استخراجه بلا ولا ذكر النشرة، والزيادة من سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم، وقوى ثبوت الاستخراج في حديثه لتكرره فيه مرتين، فبعد من الوهم فيما حقق من الاستخراج، وفي ذكره للنشرة في جوابه صلى الله عليه وسلم مكان الاستخراج)[13].

2-   ما ذكره ابن القيم رحمه الله مؤكدا كذلك وقوع الاستخراج (فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما، فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه الأول فيه أنه لم يستخرجه، وحديث ابن جريج عن هشام فيه أنه استخرجه، ولا تنافي بينهما فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه، ثم دفنه بعد أن شفي، وقول عائشة رضي الله عنها هلا استخرجته أي هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه، فأخبرها بالمانع له من ذلك وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك، فيقع الإنكار ويغضب للساحر قومه فيحدث الشر، وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة فأمر بها فدفنت ولم يستخرجها للناس، فالاستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة، والذي يدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه، ولم يجئ إليه لينظر إليها ثم ينصرف إذ لا غرض له في ذلك)[14].

فائدة: يجب أن يلاحظ أنَّه مع ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البئر فإن الروايات توضح أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل ليستخرج السحر، والجمع بين الروايات أنه أمر بعض الصحابة أن يأتوا البئر أولاً ثم توجه صلى الله عليه وسلم معهم أو لحقهم، كان من هؤلاء الصحابة علياً رضي الله عنه [15]  وعماراً رضي الله عنه [16] ، والذي وجد السحر ودل على موضعه جبير بن إياس رضي الله عنه [17]، واستخرجه قيس بن محصن رضي الله عنه[18] . وفي هذا فائدة أن الأفضل للمسحور أن يبعث غيره ممن يثق فيهم ممن هم قريبون جداً منه أو كما يقال من خاصة الخاصة له ليبطل السحر ولا يذهب لوحده، كما أنه يستعين بالثقاة من أهل المكان الذي فيه السحر حتى لا يثير الشك والريب.

فائدة: كذلك من المستفاد من الروايات الأخرى قراءة المعوذتين لإبطال السحر أو أثناء الإبطال، ويجب فعل ذلك على السحر بعد استخراجه.

الخطوة الثالثة في العلاج – التخلص من آثار السحر بالعلاج:

دل سؤال عائشة رضي الله عنها على النشرة[19] أنها مشروعة بعد إبطال السحر لاكتمال الشفاء، ولأن الله قد شفى نبيه صلى الله عليه وسلم من غير نشرة فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحتج إليها. ويستفاد من ذلك أنَّه لا بدَّ أولاً من إبطال السحر، ثم التخلص من آثاره بالطرق الطبية.

 

المستفاد من الحادثة:

1-   بيان كيد اليهود والمنافقين وبغضهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأمته من بعده.

2-   إثبات بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم يجري عليه من الأمور الدنيوية ما يجري على سائر البشر، وهذا إنكارٌ لمن غلا فيه صلى الله عليه وسلم.

3-   زيادة للابتلاءات التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الأنبياء وخير الخلق، وما من بلية إلاًّ وابتلي بها صلى الله عليه وسلم؛ من يُتْمٍ وفقد زوج وأمٍّ وجدٍّ وعمٍّ وابن، ومن الأمراض والآلام والجراح، ومن الطعن في العرض ومن قذف زوجته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.

4-   ليكون تسلية لكل مسحور من المسلمين، فهذا قدوتنا أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم قد سُحر وشُفي، هذا من هو أحسن وأعظم منك، فلا تقلق ولا تحزن، واحمد الله وافتخر أن ابْتليت بما ابتُلي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى عليك ما جرى عليه صلى الله عليه وسلم.

5-   بيان لعظم خطورة السحر وأهميته، وتنبيه إلى أنه كان موجوداً في أفضل زمن، وعانى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالك فيما بعده.

6-   تعليم الناس طريقة علاج السحر، ونلاحظ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبطِل سحره بالرقية أو بتلاوة القرآن، وقد فصلت لاحقاً في هذا الفصل ما يُستفاد من ذلك.

 

ملحوظة:

استدل البعض من قصة سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ مكان السحر من علم الغيب المطلق الخاص بالله والذي لا يمكن معرفته بالأسباب المادية وهذا فهم سقيم، بل إنَّ مَنْ فهم مثل هذا فإنه قد جعل الساحر الذي رمى السِّحر في البئر شريكاً لله صلى الله عليه وسلم في هذا الغيب الذي ادعوا أنه مطلق خاص بالله عز وجل. والله سبحانه أوحى إلى رسوله أشياء كثيرة مما هي من الغيب النسبي، مثل ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بوجود السم في الأكل الذي قدمته اليهودية للرسول صلى الله عليه وسلم، وكإخبار الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم خبر وفاة النجاشي وكسرى فارس وغير ذلك من الغيب النسبي الذي يمكن معرفته بالطرق المادية.


 

[1] زاد المعاد، فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلاَجِ السِّحْرِ الَّذِي سَحَرَتْهُ الْيَهُودُ بِهِ.

[2] بدائع الفوائد لابن القيم.

[3] يقصد أهل الكلام والفلسفة الذين قدموا عقولهم الضيقة على النقل.

[4] بدائع الفوائد لابن القيم.

[5] بدائع الفوائد لابن القيم.

[6] بدائع الفوائد لابن القيم.

[7] المعلم بفوائد مسلم للمازري، شرح أحاديث باب السحر من كتاب الطب. ص159

[8] نقلاً من فتح الباري لابن حجر.

[9] صحيح البخاري.

[10] فتح الباري لابن حجر، أخرجه ابن سعد عن الواقدي بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، والحديث مُرْسَلٌ ضعيف.

[11] بدائع الفوائد لابن القيم.

[12] فتح الباري لابن حجر.

[13] شرح صحيح بخاري لابن بطال. وقد نقل ابن حجر هذا الكلام في فتح الباري على وجه التأييد والموافقة.

[14] بدائع الفوائد لابن القيم.

[15] الغني عن التعريف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[16] عمار بن ياسر بن عامر رضي الله عنه، من السابقين إلى الإسلام في مكة هو ووالديه، كما أنَّ أُمَّه سمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام.

[17] جبير بن إياس بن خالد بن مخلد بن عامر بن زريق الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً وأحداً وتوفي ولم يعقب. الطبقات الكبرى لابن سعد البغدادي. ويُلاحَظ أنه من بني زريق نفس بطن الساحر، لكن شتان بين المؤمن والكافر.

[18] قيس بن محصن بن خالد بن مخلد بن عامر بن زريق الأنصاري الخزرجي، شهد كذلك بدراً وأحداً. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر. ويبدوا أنه ابن عم لجبير رضي الله عنهما جميعاً.

[19] تم شرح لفظة النشرة في فصل فك السحر بالسحر.

  


 
Open Stats2 Database Failed
Error Number: 1045Error Description: mysql_errorQuery: SELECT * FROM stats_day where date='2024-03-29'strWhere: